معرفة

وهل الموت أمر سيئ؟

روائية وأديبة أعلنت أنها لن تقيم أي احتفال بمناسبة حصولها على نوبل أثناء الحروب الدائرة في فلسطين وأوكرانيا .. من هي وما أهم رواياتها؟

future الكاتبة من كوريا الكورية الجنوبية هان كانغ الفائزة بجائزة نوبل في الآداب 2024 مع عدد من أعمالها

أين هو الحب؟ إنه بداخل صدري النابض الخفاق
ما هو الحب؟ إنه الخيط الذهبي الواصل بين قلبينا

تجربة

في العاشر من أكتوبر الماضي، تعلن الأكاديمية السويدية عن فوز الكاتبة من كوريا الجنوبية هان كانغ بجائزة نوبل في الآداب، أقرأ الخبر ولا ألقي له بالًا أو للاحتفاء بهذا الفوز، حتى أقرر منذ بضعة أيام استكشاف كتبها، ويقع اختياري على روايتها الأشهر «النباتية». أثناء القراءة كنت مصدومة للغاية، أحدق في الكلمات برعب وذهول ولا أتمكن أو أرغب في التوقف. أقول لنفسي «نثر شعري، أو شعر منثور على الصفحات» هذا هو الوصف الدقيق لما بين يدي. في يومين متتالين، أنهيت الرواية وألحقتها بـ«الكتاب الأبيض» وتمكنت بصعوبة شديدة من الانقطاع عن القراءة لممارسة مهامي اليومية.

في روايتها «النباتية» تستخدم كانغ لغة مجردة يمكن وصفها بالوحشية، حيث تتبع حياة امرأة تتوقف فجأة عن تناول اللحوم ويتطور بها الأمر حتى امتناعها عن تناول جميع الطعام والاكتفاء بالماء رغبة منها أن تصير شجرة. في الرواية، تستجدي الأخت الكبرى للبطلة أن تأكل كيلا تموت فتجيبها «وهل الموت أمر سيئ؟» وهو السؤال الوحيد الذي تطرحه كانغ مباشرة، لكننا خلال الرواية نتساءل معها عن العنف والجنون والحب ومعنى الأسرة والموت.

أقرر الاقتراب أكثر من كانغ وعالمها؛ فأتجه لموقع البحث أسأله فيجيبني، وينبهني ألا أخلط بين «هان» اسم عائلتها واسم النهر لكن والدها يؤكد أن عائلتهم سميت كذلك تيمنًا بالنهر ذاته. نشأت كانغ وسط أسرة أدبية فوالدها هان سيونغ وون روائي ترك مهنة التدريس ليكون كاتبًا بدوام كامل، وكلا أخويها الأكبر والأصغر يكتبون الرواية أيضًا، وتقفز ملاحظة تقول إن أهم شيء ساعدها خلال نشأتها هو وجود الكتب حولها بكثرة. بدأت كانغ الكتابة منذ سن مبكرة وليس الشطران في بداية المقال سوى جزء من قصيدة كتبتها وهي في الثامنة من عمرها.

في الكتاب التالي على قائمتي «الكتاب الأبيض»، تستمر كانغ بالتساؤل حول الموت. الموت الذي أخذ شقيقتها الكبرى خلال ساعتين فقط من ولادتها، الموت الذي أحدثه النازي في مدينة وارسو، والموت الذي يتآكلنا يومًا بعد آخر، متمثلًا في نوبات صداع نصفي توقف الزمن وتؤطره بسياج من ألم، أو الموت الحتمي الذي يأتي بعد استئناف الزمن لحركته. شعرت أن الكتاب أقل حدة من «النباتية» لكن الطابع الفلسفي المجرد لا زال كما هو، اقتصاد شديد في استخدام الكلمات وفي الوقت ذاته تحميلها بكل معنى يمكن أن تحمله.

أسئلة متصلة

تقول كانغ إنها تبدأ كتبها دائمًا للبحث عن إجابات لأسئلة، وتنهيها عندما تظن أنها اكتفت من التساؤل أو تريد طرح أسئلة أخرى في عمل آخر. بدأت كانغ كتابة «النباتية» بمجموعة أسئلة؛ هل يمكن لنا أن نكون أبرياء تمامًا؟ لأي مدى يمكننا رفض العنف؟ وماذا يحدث للمرء إذا رفض انتماءه للبشر؟

لكن أسئلة أخرى لا تدري بها كانغ تطل بعد حوالي عقد من الزمان وتدفعها لكتابة رواية «أفعال بشرية». فكانغ المولودة بمقاطعة غوانغجو، ترحل عنها في شتاء 1980 وهي في حوالي التاسعة من عمرها، لتنتقل مع أسرتها إلى سول، ولا تعلم بأن أعمال عنف اندلعت بين المتظاهرين وقوات الأمن بمسقط رأسها بعد انتقالهم ببضعة أشهر فقط، حتى وصولها الثانية عشرة عندما تجد بالصدفة ألبوم صور، كان يتداول بسرية، يوثق ما جرى من شهادات الناجين وأقرباء الضحايا، فتتصفحه خلسة وتخفيه بعناية في ذاكرتها.

تطفو هذه الذكرى بعد سنوات وتدفعها للتساؤل عن الطبيعة البشرية والعنف والبراءة مرة أخرى. تتساءل،عندما ترى اعتداءات الأمن على المتظاهرين، كيف يمكن لبشري أن يعامل آخر بمثل هذه القسوة، وعندما تقلب الصفحة فتجد عشرات من البشر يصطفون للتبرع بدمائهم للمصابين، تتساءل: من أين لهم بهذه الرحمة؟ وهكذا تقضي كانغ معظم العام 2012 بين شهادات الناجين وأقارب الضحايا، حتى تخرج لنا برواية «أفعال بشرية» التي تسجل ما حدث من وجهة نظر بطلها. تبدأ كانغ بحثها بسؤالين: هل يمكن للحاضر مساعدة الماضي؟ وهل بإمكان الأحياء إنقاذ الموتى؟ ولكنها إذ تنغمس في قراءة الشهادات ينعكس السؤالان ليصبحا: هل يمكن للماضي مساعدة الحاضر؟ وهل بإمكان الموتى إنقاذ الأحياء؟ تقول كانغ إن الإجابة على كليهما نعم.

في العام الذي انتهت فيه من كتابة «أفعال بشرية» يطل عليها حلم أو كابوس يستحثها لفتح ملف قضية أخرى وعنف بشري آخر وهي أحداث جزيرة جيجو في العام 1948 التي تظهر في كتاب بعنوان «We do not part»، ولمدة عامين تتنقل بين سول وجزيرة جيجو لجمع المواد اللازمة والكتابة وإعادة الكتابة.

المثقف المشتبك

لا يظهر التزام كانغ ووعيها بدورها كاتبة مؤثرة في المشهد الأدبي تجاه قضايا وطنها فقط، ولا تظل تساؤلاتها الفلسفية مجرد رياضة عقلية في عالمها المخطوط، بل نرى ذلك بوضوح عندما تعلن أنها لن تقيم أي احتفال أو حتى مؤتمر صحفي بمناسبة حصولها على نوبل، لأن الاحتفال أثناء الحروب الدائرة في فلسطين وأوكرانيا أمر غير لائق. كما تشير ديبورا سميث مترجمة روايتي «النباتية» و«أفعال بشرية» إلى اللغة الإنجليزية إلى تأثير كانغ في المشهد الأدبي العالمي فتقول: «إن لفظ غوانغجو لم يعد اسم علم يشير إلى مقاطعة كورية فحسب، بل لفظًا يطلق على كل من يفرض عليهم الحصار ويضربون ويروعون بوحشية ويشوهون بشكل يتعذر إصلاحه" كما تضيف :"مما يمسني شخصيًا هو رؤيتي لكثير من القراء يربطون بين الأحداث في غوانغجو وغزة، وأشعر بالإلهام بسبب قراءتهم الملتزمة والذكية واستخدامهم ترجمتي لكتاب "أفعال بشرية" لدعم مسار التحرر الفلسطيني ».

الكثير من السوابق

عندما أعلنت الأكاديمية السويدية فوز كانغ بجائزة نوبل في الأدب أصبحت بذلك أول امرأة آسيوية تحصل على الجائزة وكذلك أول شخص من كوريا، وهو اللقب الذي حققته سابقًا عند حصولها على جائزة البوكر عام 2016 عن روايتها «النباتية»، وجائزة ميديتشي الفرنسية للأعمال المترجمة إلى الفرنسية عام 2023. 

لا يمكن لي رؤية فوز كانغ بنوبل هذا العالم في معزل عن الموجة الكورية أو «Hallyu» التي بدأت انتشارها منذ منتصف التسعينات وشملت السينما والموسيقى والأعمال الدرامية، لكن فوز كانغ يضيف بعدًا جديدًا وأكثر عمقًا لتلك الموجة وفقًا للكاتبة والناقدة الأدبية كيونغ هي يون: «الدموع التي ذرفناها عند سماعنا خبر فوز كانغ بنوبل لم تكن نتيجة شعورنا بالفخر أو لأن أدبنا الوطني وصل أخيرًا لمكانة كنا نسعى إليها منذ زمن طويل، أو لأننا حصلنا على الاعتراف العالمي الذي نستحقه؛ بل لأننا تذكرنا كيف كان الأدب رفيقًا لنا طوال تلك السنوات العنيفة والمتوحشة، لقد بكينا لأننا نحن، المتعبون من كلمات العنف والكراهية، نعلم أن هناك كلمات تنشر الحياة بدلًا عن الموت لذا لا أتردد عندما أقول أن فوز كانغ بنوبل لا بد وأنه منح حياة جديدة لشخص ما تائه ووحيد في ركن معزول من العالم».

في السنوات الخمس الأخيرة، حصل ثلاثة من أصول غير أوروبية على جائزة نوبل في الأدب، هم الكيني نغوغي واثيونغو في 2021، والتنزاني عبد الرزاق قرنح في 2022، وأخيرًا هان كانغ في 2024، فهل يشير هذا إلى توجه البوصلة بعيدًا عن الهيمنة الأنجلوساكسونية والفرانكفونية على الجائزة واتجاهها نحو الجنوب العالمي مدفوعًا برغبة صادقة في اكتشاف وتقدير الثقافات المختلفة أم أنه مجرد توجه جديد للصوابية السياسية؟

تيار كهربي شعري

يسألني صديقي: «كيف وجدتِ القراءة لكانغ؟» فأجيبه: «صادمة ومؤثرة، أشعر أنني أقرأ شعرًا، وتخاطب الكلمات مشاعري مباشرة قبل حتى أن يعالجها عقلي». أشعر بالغبطة وأحاول فهم الطريقة التي تكتب بها كانغ حتى أجد ضالتي في الكلمة التي ألقتها بالأكاديمية السويدية في السابع من ديسمبر 2024، عندما تتحدث عن كتابتها فتقول:

«عندما أكتب، أستخدم جسدي. أستخدم كل التفاصيل الحسية للرؤية والسمع والشم والتذوق، والشعور باللين والدفء، والبرد والألم، بملاحظة تسارع ضربات قلبي، واحتياج جسدي للطعام والشراب، والمشي والجري، والإحساس بالرياح والمطر والثلج على بشرتي، بتشابك الأيدي. أحاول الدفع بهذه الأحاسيس الحية التي أشعر بها، بصفتي كائنًا فانيًا يجري الدم في عروقه، في كلماتي. كما لو أنني أرسل تيارًا كهربيًا، وعندما أشعر بأن هذا التيار وصل للقارئ، أتأثر وأشعر بالدهشة. في تلك اللحظات، أحس مرة أخرى بخيط اللغة الدقيق الذي يصلنا ببعضنا، وكيف تجد أسئلتي صدى لدى القراء من خلال هذا الرابط الحي. أود أن أعبر عن عميق امتناني لهؤلاء الذين تواصلوا معي من خلال هذا الخيط الرفيع والذين قد يفعلون ذلك فيما بعد».

الصبي ينهض

تأتي الترجمة العربية لرواية «أفعال بشرية» تبعًا للعنوان الإنجليزي «Human Acts» إلا أن عنوان الرواية بنسختها الكورية يمكن ترجمته حرفيًا إلى «الصبي يأتي»، الصبي هنا هو دنغ هو، الفتى الذي يجد نفسه فجأة وسط أحداث غوانغجهو الدامية ولا يملك سوى تقديم يد المساعدة، والفعل يأتي  يحمل في حد ذاته، معانِ كثيرة؛ إتيان، قدوم، صعود، انتفاضة، نهوض. وربما يمكننا هنا أن نجيب على سؤال كانغ الذي تطرحه على لسان بطلة «النباتية»: هل الموت أمر سيئ؟ بأنه لا، ليس كل الموت سيئًا، إذا كان في سبيل قضية نبيلة وإذا اعتنى الأحياء بالموتى فإن الموتى بدورهم سيقدمون يد المساعدة والرعاية وسينقذ الماضي الحاضر بما دفعه من دمه، إذا تحمل الثاني رائحة الأول الخانقة ولم تجعله وجوه الموتى المتحللة يشيح النظر عمن قتلهم، ويسارع بتغطيتهم بالتراب.

ضوء في نهاية الألم

تقول المترجمة سايتو ماريكو، والتي ترجمت عدة أعمال لكانغ إلى اللغة اليابانية:

«في عام لا تتوقف فيه الحرب والإبادة مثل عام 2024، ألا يجب أن تكون حقيقة أن هناك كاتبة لم تنسى هؤلاء الذين عانوا وماتوا ظلمًا أن تكون في ذاتها مصدرًا للأمل؟ من خلال أحداث مثل انتفاضات غوانغجو وجيجو تظهر لنا كانغ كيف تصمد الكرامة الإنسانية حتى في أوقات الكوارث. أعتقد أن الأمر يحمل مغزى خاصًا أن تتخطى تلك الرسالة الحدود الكورية وتدخل إلى عالم التجربة الإنسانية الأشمل».

بدأت كانغ نشر أعمالها منذ عام 1995 واتخذت مكانتها المستحقة بين الشخصيات الأدبية البارزة في كوريا لما يزيد عن خمسة وعشرين عامًا، وبدأت ترجمة أعمالها للإنجليزية منذ عقد مضى، ولكن فوزها بنوبل لا يأتي ليكون علامة فارقة في المشهد الأدبي أو لإلقاء الضوء على إبداعات الشرق فقط وإنما ليغيرني أنا، وأجدها تكتب عني وتواجهني بمخاوفي وتطرح هواجسي قيد التحليل، كي أجلس بدوري أكتب عن كانغ التي ربما لن تعرفني أبدًا، يفصلني عنها ما يقرب من تسعة آلاف كيلومتر وعدة بحار، أكتب إليها من الماضي إذ تسبقني هي بسبع ساعات كاملة. ربما تجلس في شقتها بسول، تحتسي الشاي الساخن وتراقب الشروق أو تبحث عن حبوب الصداع النصفي. يسري في جسدي تيار إحساسها الكهربي، وجسدي معلق بها بخيط ذهبي دقيق. أتابع أخبار هدنة وليدة أبتسم وأنا أتخيلها تتابعها مثلي، وتشعر أن هناك بعد كل شيء أملًا لتخليص البشرية من عنفها وضراوتها والعودة إلى براءة أولى لا تضطرها إلى إعادة إحياء ذكرى مذبحة بعد أخرى.

# أدب # منحة أبوالغيط للكتاب 2025 # جائزة نوبل

Nobel lecture, Kang, Han 7 December 2024
Korean Literature Now magazine, Vol. 66, Winter 2024 .. Han Kang file, pages 4 to 15 .. Quotes by Kyung Hee Youn, Deborah Smith, and Satio Mariko
Wikipedia, Kang, Han
رواية النباتية، دار تنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ترجمة عن الكورية: محمد عبد الغفار
الكتاب الأبيض، دار تنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ترجمة عن الكورية: محمد نجيب
مقدمة المترجم؛ رواية أفعال بشرية، دار تنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ترجمة عن الكورية: محمد نجيب
النماذج اللغوية الضخمة: أية أخلاق مرشحة لتحكم العالم
شِعرُ المآسي: لسنا محتوى لعين لتشاهدوه
بين الأدب والسياسة: بحثٌ في ذاكرة الألم

معرفة